عندما نتعلم من أمس الأمم والشعوب، نستطيع أن نستشرفَ أصداء غدِهم
لكي يتمكنَ أيُّ مُراقبٍ جادٍّ للتطوُّرات الأخيرة في الولاياتِ المُتحدةِ الأمريكيَّة من القيام بإعطاءِ تحليلٍ دقيقٍ لما يحدثُ هناك الآن، وما قد يحدثُ مُستقبلًا، يجبُ عليه الإدراك بأنّ «الحكاية» الأمريكيَّة مُتجذّرة في قصصِها وأساطيرها، حيث إنَّه من خلال فهم أي منا تلك الأساطير نستطيع فهم ما يسمى ب «روح الحدود» الأمريكيَّة، والتي تكوَّنت من فكرةِ الاستقرار على الحدود وترك الأمن النسبي، للقرية أو المدينة والمُغامرة في طلب الرزق بالانتقال إلى أرض غير مُستقرةٍ، وذلك اتباعًا لعقيدة أمريكية تُسمّى ب «القَدر الجلي» والتي انحدرت بدورِها من الفكر «التطهيري» أو «البيوريتاني» والتي كانت حركةً دينيةً انتقلت من بريطانيا إلى أمريكا في القرن السابعَ عشرَ، وكانت تُنادي بتطهير العقيدة البروتستانتيَّة من «الشعوذات» الكاثوليكيَّة كما كانوا يرون.
هذا الإيمان الأمريكيّ الذي سادَ في القرن التاسعَ عشرَ بأن قدرهم الواضح والجلي يكمنُ في الاتساعِ من الشرق إلى أقاصي الغرب الأمريكي «من المحيط إلى المحيط» كان سببًا رئيسيًّا في خلق هذه الرُوح التي يتفاخرُ بها الأمريكيون، والتي تحوَّلت اليوم من خلال «قدر جلي» جديد إلى الابتعاد عن الولايات المُتحدة والاستمرار في «المُغامرات» حولَ العالم.
فاليوم نجد أن «روح الحدود» تطوّرت مع تطلعاتِ تلك الحدود، فبعدَ فترة وجيزة من سياسة الانعزال في سنوات ما بين الحربَين العالميتَين، أتت الحربُ العالميَّة الثانية بحقبة يسميها المُحللون «بالهجرة العظمى»، فبسبب مُشاركة ما يُقارب رُبع الشعب الأمريكي في تلك الحرب تمَّ الابتعاد مرَّة أخرة عن الوطن الأم أمريكا إلى أقاصي الأرض شرقًا وغربًا، الشيء الذي كان له أشد الأثر في الفكر التوسعي الاقتصادي والثقافي والأمني حول العالم إلى يومنا هذا.
ولكن قبل ذلك وللبحث عن بعض تلك الجذور من خارج ما أتى به «الرجل الأبيض» يجب علينا الرجوع بالزمن عدة قرون لنرى ما كان يقال عن «الرجل الأحمر» أو كما كانوا يصفون به السكان الأصليين للقارة الأمريكية، وبخاصة إلى أسطورة «هياواثَا» وهي شخصية حقيقية وأسطورية في آنٍ واحد، ويقال إنها مزيج لعدة شخصيات تاريخية من هنود الشمال الأمريكي، فكانت أسطورة «هياواثَا» ذلك البطل الذي قاد ووحد قبائل الهنود الحمر في الشمال التي تغلغلت وامتزجت «بروح الحدود» الأمريكية إحدى الفتائل التي أشعلت أدبيات فكر «القدر الجلي»، وألهمت أدباء كثيرين مثل الشاعر الأمريكي لونغفيلو وقصيدته «أغنية هياواثَا» في القرن التاسعَ عشرَ.
نعم فقبل النظر والتحليل لما يحدث اليوم من تقلبات سياسية يجب علينا أولًا أن نفهمَ التاريخ والثقافة، فإنه فقط عندما نتعلم من أمس الأمم والشعوب، نستطيع أن نستشرفَ أصداء غدِهم، أما بالنسبة لي، فقد كانت القصيدة التي كتبها الوالدُ سعادةُ الشَّيخ مبارك بن سيف آل ثاني حفظه الله عام ١٩٧٤ م والمُسماة «نياجرا»، هي «حجر رشيد» بالنسبة لي لكي أتعرف على مهد هذا التاريخ، وهذه الشخصية الأسطورية، عندما ذكرها في جزءٍ من تلك القصيدة:
(هَديرٌ .. هَديرْ
كأنَّه صَوتُ الرُّعودْ
يَجوبُ السَّماءْ
وتَسبحُ أصداؤُهُ في الفضاءْ
ويُطلِقُ (هياواثَاْ) صَيْحَتَهُ
تُحلِّقُ في السَّهلِ …
ثُمَّ تَعودْ
نِياجْرا .. وصيْحاتُ حُمْرِ الهُنودْ)
-
(بعمق نظرك للماضي، تتسع رؤيتك للمستقبل)
إلى اللقاء في رأيٍ آخرَ.
Commenti