التسریبات الحالیة ما زالت في مهد التحلیل والنشر
في صیف عام ١٩٦٧ وفي خضم حرب خاسرة كانت تخوضها الولایات المُتحدة الأمریكیة في فیتنام، كلف وزیر الدفاع الأمریكي آنذاك روبیرت ماكنامیرا معهد راند بالقیام بدراسة تاریخیة مُحایدة للأسباب الحقیقیة والأهداف السیاسیة التي أدت إلى الحرب في فیتنام، لتشمل نظرة تحلیلیة لجمیع الأخطاء التي أدت إلى موقفهم آنذاك، إلا أن الوزیر كان قد أصر على أن تبقى تلك الوثائق للتاریخ ولا یكشف عنها إلا بعد عدة عقود، حیث إنها ستكشف عن تناقضات الحكومة الأمریكیة بین النيات الحقیقیة وما یُقال في العلن.
كانت هذه المُستندات تحظى بدرجة عالیة من السریة، وقد أعطي الفریق المعني بهذه الدراسة في معهد راند جمیع الصلاحیات للاطلاع على المُستندات العسكریة السریة لدراستها وإصدار تقریرهم المُحاید مع التزامهم بتلك السریة، إلا أن دانیال ایلزبرغ أحد المُحللین في المعهد وبعد ما شاهده من تلك التناقضات وما وصفه ب «التستر على الدوافع غیر الأخلاقیة للحرب»، قرر تسریب التقریر السري مشفوعًا بآلاف الوثائق الحكومیة والاستخباریة والتي صنفت بدرجة (سري للغایة) للإعلام الأمریكي.
أشعلت ما كانت تعرف حینها بقضیة «أوراق البنتاغون» المُسربة، الرأي العام الأمریكي، وتم من خلالها تأسیس عدة حقوق قانونیة للإعلام من خلال قرارات المحكمة الدستوریة العُلیا الأمریكیة والتي مع تأكیدها بأن التسریب في حد ذاته مُخالف للقانون، إلا أنه ومن خلال سابقة قضائیة أكدت المحكمة أن نشر التسریبات من قِبل وسائل الإعلام لا یعتبر مُخالفًا للقانون، بل یقع ضمن حریة الصحافة المُحصنة في الدستور الأمریكي، واستثناء من القاعدة القانونیة الشهیرة یصبح هنا «ما بُني على باطل.. لیس بالضرورة بباطل».
لقد أدت قضیة أوراق البنتاغون والسابقة القانونیة إلى قضایا تسریب مُماثلة في العقود اللاحقة، ومن أشهرها في العصر الرقمي الجدید تسریبات «ویكیلیكس» التي قام بها جولیان اسانج، وتسریبات عملیتي «بریزم» و»ماسكیولار» اللتين قام بهما إدوارد سنودون، وكشف من خلالهما هذا الأخیر خطط وأسالیب التجسس والمُتابعة الإلكترونیة اللصیقة لأجهزة المُخابرات الأمریكیة، یجدر الذكر بأن سنودون ما زال مُصنفًا من الجانب الأمریكي «كهارب من العدالة» في روسیا.
أما التسریبات الأخیرة التي قام بها شاب اسمه جاك تاكسیرا من الحرس الوطني الجوي لولایة ماساتشوستس، فتتسم بالغرابة لكونها قد نشرت على مُنتدیات «دیسكورد» الشهیرة في إحدى الغرف المُخصصة لمُناقشة الألعاب الإلكترونیة، حیث نشرها تاكسیرا هناك، وبقیت دون أي مُلاحظة لأسابیع حتى تم اكتشافها «بمحض الصدفة»، وكسابقاتها من قضایا التسریب لم یتم منع الإعلام من تناقل ما في التسریبات من تفاصیل إلا أن الشاب الذي قام «بالجریمة» تم القبض علیه وتوجیه تهم الجاسوسیة إلیه.
بلا شك إن التسریبات الحالیة ما زالت في مهد التحلیل والنشر، ومن شبه المؤكد أننا سنرى ونقرأ المزید من الأخبار المُتعلقة بتلك التسریبات، والتي تحتفظ عدة مؤسسات إعلامیة بنسخ منها بالرغم من قیام أجهزة المُخابرات الأمریكیة بمسح ما تبقى على شبكة الإنترنت، فهل سنرى «المانشیتات» في الصحف الأمریكیة مُشابهة لتلك التي نشرت في العقود الماضیة؟ فما تم نشره إلى الیوم من تعاون لصیق لبعض الحكومات العربیة والغربیة مع الحكومة الروسیة، إما لمُساندتها في حربها في أوكرانیا أو «للعمل معًا ضد المُخابرات الأمریكیة والبریطانیة»، لا بد أنه سیكون مُقلقًا للغایة للولایات المُتحدة الأمریكیة «إن صحت التقاریر».
أما الآن فالأوكرانیون یؤكدون، والعرب ینفون، والروس یُراقبون، أما الأمریكیون فردهم الوحید هو:
عذراً فهذا.. (سري للغایة).
(لا تمنع عدوك عن الخطأ)
إلى اللقاء في رأيٍ آخرَ.
Comments