«بريكست» يُدفَن دون جنازة
- نواف بن مبارك آل ثاني
- 26 يونيو
- 2 دقيقة قراءة
والدروس تُنسى في الجنوب


أعلنت حكومة رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر عن اتفاق جديد مع الاتحاد الأوروبي يعيد تنظيم العلاقة بين الطرفين، بعد سنوات من التوتر السياسي والتجاري الذي أعقب خروج بريطانيا من التكتل الأوروبي. يشمل الاتفاق: تسهيلات جمركية، تنسيقًا دفاعيًا، وبرامج تنقّل شبابي، إضافة إلى تمديد امتيازات الصيد لصالح الدول الأوروبية حتى عام 2038، في مقابل التزام بريطاني بتقارب تنظيمي في بعض القطاعات الاقتصادية.
لكن الاتفاق لا يقتصر على الجوانب الفنية. فهو يحمل دلالة استراتيجية أعمق: بريطانيا، التي رفعت شعار «استعادة السيادة» خلال حملة «البريكست» ، تعود الآن إلى أوروبا عبر مداخل التعاون العملي، لا الشعارات السياسية. إنها عودة غير مُعلنة إلى الحضن الأوروبي، عبر مسارات دفاعية وتجارية وطلابية، دون خوض معركة جديدة مع الرأي العام البريطاني الذي لا يزال منقسمًا حول آثار الانفصال.
الاتفاق يمنح لندن إمكانية الوصول إلى صندوق الدفاع الأوروبي بقيمة 150 مليار يورو، بما يعزز شراكتها الأمنية مع بروكسل في ظل التهديدات المُتزايدة في شرق القارة. كما يُتوقّع أن يعود الاتفاق بفوائد اقتصادية تُقدّر بـ 9 مليارات جنيه إسترليني سنويًا، بحلول عام 2040، بفعل تخفيف الحواجز الجمركية وتسهيل حركة السلع، لاسيما في قطاعات الغذاء والدواء.
هذه التطورات لا تأتي بمعزل عن السياق الجيوسياسي الدولي. أوروبا تواجه ضغوطًا أمنية متصاعدة، وبحاجة إلى توسيع نطاق تحالفاتها الدفاعية، حتى لو كان ذلك خارج حدود عضويتها الرسمية. أما بريطانيا، فتسعى لاستعادة نفوذها دون الاعتراف الضمني بفشل «بريكست» . النتيجة هي اتفاق واقعي، يعبّر عن نهاية صامتة لخطاب الانفصال، وبداية مرحلة من الشراكة المرنة.
في العالم العربي، تُطرح تساؤلات حقيقية: لماذا تُمنح دول الشمال فرصة مراجعة المسار دون تكلفة سياسية باهظة، بينما يُطلب من دول الجنوب -لا سيما من منطقتنا- تقديم تنازلات مشروطة مسبقًا عند كل تحول أو تقارب مع أوروبا؟ لماذا يُعَدّ الحوار مع بريطانيا «تصحيحًا» ، فيما يُعدّ مع دول الجنوب «تنازلًا» أو «خضوعًا» ؟
إن غياب التكتل العربي في مواجهة المتغيرات الجيوسياسية الدولية، وعدم القدرة على التحدث بصوت تفاوضي موحّد، يُضعف فرص التأثير ويكرّس التبعية. المطلوبُ اليومَ ليس فقط فهم ما يحدث في لندن أو بروكسل، بل القدرة على الاستفادة منه لصياغة موقف عربي متماسك، يفرض حضوره كشريك استراتيجي لا كطرف مُتَلَقٍ.
الرأي الأخير …
لقد عادت بريطانيا إلى أوروبا بعقلانية، بعد أن اختبرت كلفة العزلة. والسؤال المطروح: هل لدى العواصم العربية الاستعداد الكافي لطرح مشاريع مشابهة تُعيد تصحيح علاقاتها مع مراكز القرار العالمية، وتمنحها هامشًا أوسع من التأثير دون الخضوع للابتزاز السياسي أو الاقتصادي؟ الفرصة لا تزال قائمة. ولكن في عالم يعيد ترتيب أوراقه بهدوء، لا مكان للمترددين، ولا حضور لمن يكتفي بالمراقبة.
(من لا يفاوض على مكانه، يُستبدل في غيابه)
إلى اللقاء في رأي آخر ،،،

Comments