واشنطن وقفار المرايا
- نواف بن مبارك آل ثاني 
- 23 يوليو
- 2 دقيقة قراءة
السلطة الخفية في العاصمة الأمريكيّة


في واشنطن، لا تُكتب السياسات الكُبرى دائمًا في البيت الأبيض أو تحت قبة الكونغرس، بل في فضاءات أكثر هدوءًا وأشد دهاءً: مراكز الفكر. هذه المؤسسات ليست مُنتديات أكاديمية باردة كما يظن البعض، بل مصانع حقيقية للأفكار والنفوذ، ومعابر استراتيجية يعود إليها المسؤولون الأمريكيون بعد ترك مناصبهم ليعيدوا تموضعهم، أو تنطلق منها وجوه شابة يمهَّد لها الطريق نحو مواقع القرار. أوراقها وتقاريرها ليست مُجرّد دراسات نظرية، بل كثيرًا ما تكون المسوَّدات الأولى لسياسات ستُعلن لاحقًا من أعلى المستويات.
في هذه البيئة، يصبح تجاهل مراكز الفكر ضربًا من الانتحار السياسي للدول الأجنبية. فمن لا يُدرك وزن هذه المؤسسات يجد نفسه محكومًا برد الفعل الدائم، يركض خلف الأزمات بعد وقوعها، يحاول إطفاء الحرائق وقد فات الأوان، وينزف الوقت والمال والسمعة دون جدوى. الأخطر من ذلك أن هذا الجهل يجعل الدول فريسةً سهلةً لحملات ضغط مدروسة تُدار ببراعة من داخل تلك المراكز، فتجد نفسها مُدانةً قبل أن تنطق بكلمة، ومحاصَرة قبل أن تُتاح لها فرصة الدفاع عن مواقفها.
أما الدول التي تعرف كيف تلعب اللعبة «الواشنطونية» بدهاء «جِراحِيٍّ» دقيق، فتنجح في تحقيق الكثير بأقل الموارد. هذه الدول تدرك أن الطريق إلى العقول المقرِّرة أقصر بكثير من الطريق إلى المكاتب الرسمية، وأن التأثير الحقيقي يبدأ مبكرًا، من خلال صياغة النقاش لا اللحاق به. ولعل التجرِبة القطرية مثال بارز على هذا الفَهم العميق لديناميكيات واشنطن، حيث استطاعت أن تبني حضورًا مؤثرًا بعمل هادئ واستثمار استراتيجي، هذه الدول لا تتحرّك بعشوائية ولا تبالغ في استعراض قوتها، بل تستثمر بهدوءٍ في بناء «الشبكات».
أما الخطأ القاتل الذي يقع فيه كثيرون فهو الخلط بين الواجهة الاجتماعية والعمق الاستراتيجي، فحفلات العشاء الرسمية، وصور المجاملة في صالات الفنادق الباذخة، قد تمنح وهم القرب لكنها لا تغيّر من مسار السياسات شيئًا، ولا تحصن من حملات الاستهداف. فبعيدًا عن الاستعراض الاجتماعي، تدور اللعبة الحقيقية في مكان آخر: في الغرف المغلقة حيث تُصاغ السرديات وتُشكَّل القوالب الذهنية التي تتحوّل لاحقًا إلى سياساتٍ رسميةٍ.
الرأي الأخير ...
واشنطن ليست عاصمة العَلاقات السطحية كما يظن البعض، بل عاصمة الروايات العميقة وصناعة التصوّرات، فمن لا يفهم ديناميكيتها يصبح تابعًا للحدث لا صانعه، فمراكز الفكر الأمريكية هي المُحرّك الصامت الذي يسبق الجميع بخُطوة، ومن يفشل في التعامل معها يخسر الجولة قبل أن تبدأ. أما من يتقن قراءة هذه البيئة ويدرك أنها قلب اللعبة لا هامشها، فإنه يربح نفوذًا طويل الأمد ويستبق الآخرين بخُطواتٍ محسوبةٍ، وبينما هناك قلة فهمت هذا اللغز الدبلوماسي وأتقنته، ما زالت دول أخرى، عاجزة عن تمييز الوهم من الحقيقة.. تائهة في قفار المرايا.
«عادَةً ما يَكونُ الطَّريقُ إِلى الفَشَلِ مَرصوفًا بِالنَّوايا الحَسَنَةِ».
إلى اللقاء في رأي آخر،،،











تعليقات