تجاوز التحديات بالحلول المبتكرة واستراتيجيات إدارة المياه القوية
قد أصبحَ من الحتمي في الآونة الأخيرة، التعامل بشكل جاد ومُستدام مع موارد الأرض الطبيعية، ومن بين هذه الموارد المياه التي تحتل مكانةً فريدةً عند الدول الصغيرة والمتوسطة، وذلك نظرًا لدورها الحيوي في أمن أي مُجتمع، وبالنسبة للدول الصغيرة، فإن مسألة أمن المياه غالبًا ما تكون أكثر تعقيدًا بسبب التغيّر المُناخي، والديناميكيات الجيوسياسية، والضغوط السكانية، والقضايا المُتعلقة بالبنية التحتية. ولتوضيح هذه التحديات، أردت أن ألقيَ الضوءَ على أمثلة مُتنوعة من تلك الدول الصغيرة والمتوسطة، مثل المالديف، وفلسطين، وسنغافورة، واليمن، وبوليفيا وهنا في دول الخليج العربي.
تواجه المالديف الدولة الصغيرة والمُكوّنة من أرخبيل من الجزر الصغيرة في المحيط الهندي المخاطر الوشيكة لتغيّر المُناخ، والتي يمكن أن تؤدي إلى ارتفاع في مستوى البحر، والذي أدى بدوره إلى تلوث المياه العذبة بالمياه المالحة، مُهددًا بذلك مخزون المياه الصالحة للشرب والزراعة هناك، ووفقًا لتقرير من الأمم المُتحدة، فإن عملية «تداخل المياه المالحة» تؤثر بالفعل على الجزر المُنخفضة في المالديف، ما يوضح الحاجة المُلحة للحلول المُبتكرة.
أما فلسطين فتعتبر مثالًا حيًا على التوترات الجيوسياسية الناتجة عن الاحتلال حول موارد المياه، فمع سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على غالبية الموارد المائية، فإن وضع فلسطين كدولة صغيرة أدى إلى صعوبات في تأمين اتفاق عادل لتقاسم المياه، ما أضاف إلى التوترات القائمة، وظهور العجز الكلي للمُجتمع الدولي لإيجاد حلول إنسانية لهذه الأزمة التي ستتصدر في تقديري قائمة الأولويات الإنسانية في العقد القادم.
تبرز مشاكل أمن المياه في سنغافورة «الدولة المدينة» كما تعرف التحديات التي تواجهها الدول الصغيرة بسبب الضغوط السكانية. والتي يكثف فيها العمران، حيث شهدت سنغافورة ارتفاعًا سريعًا في الطلب على المياه ووَفقًا للهيئة العامة للخدمات في سنغافورة، فمن المُتوقع أن يتضاعفَ الطلب الإجمالي على المياه بحلول عام ٢٠٦٠، ولمواجهة هذا طوّرت سنغافورة تكنولوجيا حديثة تسمى NEWater، وهي نظام مُبتكر لإعادة تدوير المياه على نطاق واسع، ومع كونها تكنولوجيا حديثة إلا أن هذا النظام المُبتكر قد يكون نموذجًا يُحتذى به في دول صغيرة أخرى.
أما في اليمن، فتظهر المخاطر الصحية العامة المُرتبطة بنقص المياه بوضوح نظرًا للصراع الدائر وندرة الموارد والقدرات الصحية، فقد شهد اليمن تفشيًا مُتكررًا لداء الكوليرا كما أفادت مُنظمة الصحة العالمية بأنه توجد أكثر من ١.٣ مليون حالة كوليرا مُشتبه بها في اليمن بين عامي ٢٠١٦ و ٢٠١٨، ما يزيد من أهمية وعي الدول الصغيرة والمتوسطة لخطورة انعدام الأمن المائي.
ومع تركيزي هنا على الدول الصغيرة والمتوسطة إلا أننا لا يمكن أن نُهملَ دولًا أكبر حجمًا هي الأخرى تعاني من وجود تهديد على أمنها المائي مثل بوليفيا في أمريكا الجنوبية التي تُسمى «بدولة حبيسة» لكونها محاطة باليابسة من جميع الجهات حيث تواجه تحديات خاصة بأمن المياه، فعلى الرغم من امتلاكها موارد مائية عذبة كبيرة، إلا أنه وبسبب البنية التحتية غير الكافية والتوزيع غير المُتكافئ لخدمات المياه، أصبح هناك نقص في المياه في بعض المناطق، ما يبرز دور الإدارة السليمة للدولة في تحقيق الأمن المائي.
أما في الخليج العربي الذي يتكون من عدة دول صغيرة ومتوسطة فإن الاعتماد وبشدة على مياه الخليج المُحلاة يُمثل نقطة ضعف استراتيجي، إضافة إلى أن التغيرات الجيوسياسية المُحتملة في الخليج والتي قد تؤثر على هذه القدرات ستؤدي إلى اضطراب في عمليات التحلية، التي بدورها ستتسبب في تحديات لأمن المياه ومن ثم الأمن الوطني لدول الخليج، وهنا يستوجب على دول الخليج النظر إلى بحر عمان كبديل استراتيجي للخليج العربي والمياه الجوفية بالتزامن مع برامج إعادة تدوير للمياه تحمي المصالح الوطنية.
على الرغم من هذه التحديات الكبيرة، تُظهر الدول الصغيرة مرونة وابتكارًا عاليين ليؤكد الخبراء مثل الدكتور يوهان كويلينستيرنا وهو مُتخصص في سياسات المياه أن الدول الصغيرة يمكن أن «تحوّل حجمها إلى ميزة من خلال تبنيها تقنياتٍ مرنةً في استخدام المياه واستراتيجيات فعالة لإدارتها. بالإضافة إلى ذلك، قد يكون للتعاون الدولي المؤثر دور حاسم في التخفيف من هذه المخاطر، كما يتضح من الدعم الذي قدمته دول الخليج العربي لليمن خلال أزمتها المائية.
الرأي الأخير ...
إن قضية أمن المياه بلا شك قضية عالمية كما يقول الدكتور أوبمانو لال، مُدير مركز كولومبيا للمياه: «يمكن لنقص المياه أن يُعرقلَ السلام والاستقرار العالميين، ومع ذلك فالعمل الجماعي والالتزام بالمُمارسات المُستدامة، يمكّننا من تحويل هذه الأزمة إلى فرصة» وفي المجمل، تتطلب التحديات التي تواجهها الدول الصغيرة في مجال أمن المياه العناية الفورية لا التأجيل، ومن خلال الحلول المُبتكرة، واستراتيجيات إدارة المياه القوية، والتعاون العالمي، يمكن تجاوز هذه التحديات. فقد حان الوقت للمُجتمع الدولي أن يتضامنَ مع الدول الصغيرة، لضمان أن تظل المياه رمزًا للحياة والسلام، وليس الصراع والحروب.
(التميز ليس مهارةً، بل سلوكًا)
إلى اللقاء في رأي آخر ،،،
Comments