الدستور الأمريكي له دور أكثر أهمية من منح الحقوق وإظهار الواجبات وتأسيس دولة القانون
هي الكلماتُ الأولى التي بدأ بها الدستور الأمريكي رحلتَه التشريعيَّة منذ بداية الحياة الدستوريَّة في الولايات الأمريكية عام ١٧٨٩، ومنذ ذلك الزمن تمَّ القيام بـ ٢٧ تعديلًا دستوريًا ليتلاءم الدستور الأمريكيّ مع مُتطلبات العصر، ولأكثر من قرنَين من الزمان تمَّ وصفُ الدستور الأمريكي وبشكل مُحق من وجهة نظري بأنه أكثر المُستندات التشريعيَّة المانحة للحُريات في تاريخ البشرية.
إلا أنَّ الدستور الأمريكي له دور أكثر أهمية من منح الحقوق وإظهار الواجبات وتأسيس دولة القانون، فللدستور الأمريكي كمُعظم الدساتير دور للحدّ من الحريات، للحفاظ على حقوق الأقليات، فالإقرار مثلًا بأنَّ حرية الرأي مكفولة فرغم أنَّ هذا يقرُّ تلك الحرية في الدستور إلا أنَّ الدستور ومن خلال هذا القرار يحدُّ من حُريات المُواطنين في تقييد حُرية الرأي، وإن أتى ذلك التقييد بأغلبية ديمقراطية أو بتقنين تشريعي.
ومن خلال فهمنا لذلك المبدأ ومدى صعوبة الإجراءات المطلوبة لأي تعديل دستوري نستطيع أن نبدأ بفهم ما يحدث اليوم من انقسامات حول بعض القوانين التي تم رفضُها دستوريًا بعد اعتمادها لعقود، ففي وجود صعوبات عديدة للتعديل الدستوري ومنها تأييد ثلثَي مجلسي النواب والشيوخ لمقترح دستوري، ومن ثم مصادقة ثلاثة أرباع كل من مجالس النواب والشيوخ لكل من الولايات الأمريكية الخمسين، الأمر الذي أدَّى إلى قيام المشرع الأمريكي وبخاصة أثناء الحكومات الديمقراطية بإيجاد طريق مختصر للتعديل الدستوري غير الرسمي وهو باستخدام قرارات المحكمة الدستورية العُليا كأداة تشريعية عُليا تفي بالغرض.
واستمرَّ الأمر كذلك منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى فترة الرئيس ترامب الذي قام بتعيين عددٍ من القضاة المحافظين وهم من مدرسة يطلق عليها «النظرية الدستورية الأصلية» أو «المدرسة النصية» أي أن الدستور ثابت منذ إنشائه ولا يتغيّر بتغيّر أهواء القضاة، ولا يمكن تغييره سوى بطرق التعديل الدستورية المذكورة، وهنا يجب ذكر أن المدرسة الدستورية التي كانت شائعة حتى فترة قريبة هي مدرسة «الدستور الحي» وهي نظرية مخالفة «للنصيّة» وتعتبر روح الدستور أهم من نصّ الدستور.
وما يحدثُ اليومَ في أمريكا من إلغاء الحقّ الدستوريّ في الإجهاض بعد أن كانَ دستوريًا في أمريكا لنصف قرن، لم يأتِ من فراغ بل أتى بعد عودة المدرسة النصية إلى قاعات المحاكم الأمريكية وبخاصة المحكمة الدستورية العليا، وأيضًا من خلال النشاط الطلابي في كليات الحقوق والقانون في جامعات الولايات المتحدة الأمريكية والتي بدأت في التركيز على تدريس مبادئ الدستور من باب فهم النص كما تم وضعه من قبل المشرِّع، وليس باتباع رُوح النصوص وتطويع القوانين لأهواء من يفسر، ولضمان ذلك قامَ عددٌ من القضاة وأساتذة القانون وعلى رأسهم قاضي المحكمة الدستورية السابق أنتونين سكاليا بإنشاء «الجمعية الفيدرالية الأمريكية»، وهي معهد لتدارس وتباحث أصول القانون ومبادئ تاريخ الدساتير من المنحى المحافظ في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم، ويضم قانونيين ومحامين وكتّابًا.
الرأي الأخير...
دُعيت منذ عدة أعوام للانضمام كعضو قانوني في الجمعية الفيدرالية الأمريكية، ربما لتطابق كتاباتي وأفكاري آنذاك -وحتى الآن- مع مبدأ سيادة النص في تفسير القوانين، ومن خلال أبحاثي ودراساتي هناك وجدت الاعتماد وبكثرة على مبادئ تفسيرية أخذت من الشريعة الإسلامية ومبادئ القضاء الشرعي، والتي انتقلت عبر القوانين الأوروبية التي عبرت المحيط عند ولادة الجمهورية الأمريكية، ولطالما تساءلت .. ما أسباب انتعاش مبادئنا تلك لدى الغرب ومماتها لدى العرب؟ ربما نكون جميعًا على علم بالإجابة.
Comentarios