top of page
  • صورة الكاتبنواف بن مبارك آل ثاني

سيوف الإسلام : عقيدة الجهاد (2)

ساحات القادسية في رحاب الاستراتيجية



نواصل في هذا الأسبوع سلسلتنا بالبحث في ثنايا التاريخ الإسلامي، لتبرز معركة القادسية كحجر زاوية أسس لمستقبل العالم الإسلامي ومد نفوذه إلى ما وراء الجزيرة العربية، هذا الصدام العظيم بين الإمبراطورية الساسانية والقوات المسلمة تحت قيادة سعد بن أبي وقاص في العام 15 هـ الموافق للعام 636 م لم يدشن فصلاً جديدًا في تاريخ الفتوحات الإسلامية فحسب، بل كشف عن تطورات مهمة في العقيدة العسكرية الإسلامية المبكرة، من خلال استقراء الاستراتيجيات المطبقة خلال هذه المعركة الفارقة نكتشف الأسس التي بُنيت عليها العقائد العسكرية وتداعياتها على مفاهيم الحروب الحديثة. عصر الخلافة الرشيدة الذي شهد هذه المعركة كان مرحلة من التوسع السريع والحملات العسكرية التي استوجبت تكتيكات مبتكرة ورؤية استراتيجية بعيدة المدى، القوات المسلمة رغم قلتها ونقص تجهيزاتها مقارنة بالساسانيين، استثمرت في ”الحركية“ وجمع المعلومات والحرب النفسية، التي تعتبر اليوم من الركائز الأساسية للعقيدة العسكرية المعاصرة.

الحركية كانت سمة مميزة للتكتيك العسكري في القادسية، حيث سمحت القدرة على التنقل السريع للفرسان المسلمين بتجاوز الوحدات الثقيلة للساسانيين، معطلين بذلك تشكيلاتهم وخطوط إمدادهم، هذا التركيز على الحركة والمرونة يجد صداه في الاستراتيجيات العسكرية الحديثة التي تؤكد على أهمية السرعة والقدرة على إعادة تموضع القوات بكفاءة.

كذلك، كان جمع المعلومات عنصرًا حاسمًا في نجاح المسلمين بالقادسية، فقد كانت قوات سعد بن أبي وقاص تجمع بدقة بيانات حول تحركات العدو وقوته وضعفه، مما مكّنهم من التنبؤ بخطط الساسانيين وإعداد استجابات مضادة فعّالة. في الحروب المعاصرة، التي تعتمد بشكل كبير على المعلومات، يظل جمع البيانات الدقيقة ركنًا أساسيًا يدعم صناعة القرار ويسمح بالتحركات الاستباقية ضد الخصوم. إضافة إلى ذلك، استخدم المسلمون – كما ذكرنا في المقال السابق – الحرب النفسية بمهارة لإضعاف معنويات الجيش الساساني، مستعينين بالدعاية والتأثير على تصورات العدو لتقويض إرادتهم للقتال، والدعم النفسي الإيجابي للقوات الإسلامية عندما صرخ القعقاع بن عمرو التميمي في الجيش الاسلامي «إن الدبرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة واحملوا، فإن النصر مع الصبر فآثروا الصبر على الجزع»، هذه الاستراتيجية تعكس العمليات النفسية الحديثة التي تهدف إلى تقويض الإرادة القتالية للخصم ورفع معنويات قواتنا.

على عكس الهياكل القيادية المركزية الصارمة لخصومهم، استفادت القوات الإسلامية المبكرة من نظام قيادة أكثر لامركزية، الشيء الذي سيستمر لقرون من العقيدة القتالية الإسلامية، كما نوضح في هذه السلسلة، مما أتاح اتخاذ القرارات بسرعة والتكيف مع متغيرات المعركة، هذا المبدأ من القيادة الموزعة يحظى بتقدير كبير في التفكير العسكري المعاصر، مؤكدًا على أهمية الرشاقة والابتكار على المستوى التكتيكي ”التعبوي“.

الرأي الأخير …

إرث القادسية والمبادئ الاستراتيجية التي استشفيناها منها لا يزال يصدح في الفكر الاستراتيجي للقوات المسلحة العربية الحديثة، تعلمنا من هذه المعركة أهمية استغلال الحركية، وضرورة جمع المعلومات، وتأثير الحرب النفسية، وفائدة القيادة اللامركزية، مقدمةً بذلك دروسًا خالدة في فنون القتال، في ظل التحديات العسكرية المعاصرة التي يواجهها العالم الإسلامي، تظل هذه الأصداء التاريخية مصدر إلهام وحكمة استراتيجية عميقة. إن الولوج في تاريخ هذه المعارك لا يُثري معرفتنا بالإرث العسكري الإسلامي فقط بل يجسر أيضًا الفجوة بين الماضي والحاضر، موضحًا الأهمية المستمرة للعقائد العسكرية المبكرة في تشكيل ملامح الحرب الحديثة، ومع تأملنا في إنجازات وابتكارات أسلافنا، نُدرك التطور المستمر للفن والعلم العسكريين المتجذرين في تراث غني بالتحدي، الابتكار، والدهاء الاستراتيجي.

(قتلتُ رُستُم وربِّ الكعبة) - هلال بن علقمة التميمي

إلى اللقاء في رأي آخر ،،،


٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page