الصراع بين اليوتوبيا والدستوبيا
نتأمّل اليوم نظرةَ الروائي الأمريكي الراحل مايكل كرايتون الذي تحدّث من خلالها عما أسماه بـ «دول الخوف»، وهي السياسات الإعلاميّة التي تُفاقم أي محنة حقيقية، ليكون الضرر الناتج عن الخوف نتيجة تلك السياسات أسوأ من أضرار المحنة ذاتها، حيث جابه الروائي بدهاء متاهات البيانات العلميّة والإثارة الإعلاميّة والمُناورات السياسيّة، نسبر أغوار «دولة الخوف» التي تُسيطر على عالمنا اليوم، نهدف من خلال هذا المقال ليس إلى نفي الأخطار التي نواجهها، بل إلى دراسة كيفية صناعة الخوف ونشره، وكيف يؤثر ذلك في تشكيل الوعي العام والسياسات بطرقٍ قد لا تتماشى دائمًا مع المنطق العلمي.
أجواء الرعب.. أبعد من كوارث البيئة
كما في تحليلات كرايتون، تمتد «دولة الخوف» في عالمنا اليوم إلى ما هو أبعد من القضايا البيئيّة، لتشمل مخاوف مُتنوّعة مثل الجوائح، والتهديدات التكنولوجية، والتوترات الجيوسياسية، ففي كل حالة نجد نمطًا مُتكررًا: حقيقة علمية صرفة تُغلف بتكهنات مُفرطة، وتضخيم إعلامي، ولعبة سياسية، لتتحوّل إلى شبح ضخم يُهيمن على الخطاب العام والقرارات السياسيّة.
على ساحة البيئة، تتم مُعالجة مُشكلة التغيّر المُناخي، المُلحة والحقيقيّة، عبر سرديات مُبالغ فيها ترسم صورًا لكوارث وشيكة، ما يجعل الحوارات المُتوازنة حول كيفية التعامل معها تتراجع لصالح عناوين صحفيّة مُثيرة، هذا الفصل بين النقاش العلمي وتصوّر الجمهور يخلق بيئة خصبة للخوف، مُتجاوزًا في كثير من الأحيان السياسات المبنيّة على الدليل العلمي لفائدة تدابير حكومية مُتسرّعة تستجيب لعواطف الجماهير.
الجائحة كورونا: دراسة في الخوف
قدمت الجائحة الأخيرة نموذجًا واضحًا لكيفية تشكّل الرعب، بداية أدّى نقص المعلومات والغموض الذي يكتنف البحث العلمي إلى خلق فضاء للتكهنات القاتمة ومع تطوّر الجائحة، توسعت معارف العلماء، مُقدمةً فَهمًا أعمق لطبيعة الفيروس وكيفية مواجهته ولكن، ظل تصوّر العامة مُتأخرًا، مُرتبطًا أكثر بصور الخوف الأولية. هذا التباين، الذي زادته شدة وسائل التواصل الاجتماعي وتسييس الإجراءات الصحيّة، يبرز الفجوة بين الفَهم العلمي والسياسة العامة، التي أصبحت مدفوعةً أكثر بالخوف بدلًا من المُعطيات العلميّة البحتة.
خشية التكنولوجيا.. في مواجهة المجهول
تُقدِّم التقنياتُ الجديدةُ، خصوصًا في مجال الذكاء الاصطناعي والبيولوجيا، مسرحًا آخر لـ «دولة الخوف». الخوف هنا ليس مُستمدًا من الحاضر، بل من إمكانية الاستخدام الخاطئ أو العواقب غير المقصودة في المُستقبل، ليتخطى النقاش بسرعة من الابتكار إلى السيناريوهات «الدستوبية» دون ترك مساحة للنقاش حول الأخلاقيات، والتنظيم، أو الإمكانات الإيجابية لهذه التقنيات. هذا القفز، المُحفز بروايات خيالية وتقارير إعلاميّة مُثيرة، يعمي عن رؤية مسار حوار مُتوازن ومُستنير حول كيفية استغلال هذه التقنيات لصالح الإنسانيّة.
تجسير الهوة بين العلم، والإعلام، والسياسة
الطريق لعبور «دولة الخوف» هذه يكمن في تجسير الهوة بين الفَهم العلمي، وتغطية الإعلام، وصناعة السياسة، ليتطلب ذلك جهدًا مُشتركًا لتعزيز الوعي العلمي بين الناس، ولضمان أن يكونَ الإعلام دقيقًا ومسؤولًا عند تناول القضايا العلميّة، وأن تستند القرارات السياسيّة إلى أفضل المُعطيات المُتاحة بدلًا من الانجراف وراء الإثارة أو المصالح السياسيّة.
الرأي الأخير:
في جوهرها، تعكس رحلتنا عبر «دول الخوف» المُعاصرة تبصرات كرايتون حول التفاعل المُعقّد بين العلم، والإعلام، والسياسة. إنها دعوة لليقظة في التمييز بين الحقيقة والظلال، مُحفّزة لخطاب يستند إلى البيانات، مُعتدل بالعقلانية، ومُهتدٍ بمبادئ الاستقصاء العلمي. فقط عندها، يُمكننا أن نأمل في تجاوز ضباب الخوف، موجهين سفينتنا الجماعيّة نحو مُستقبل يستند إلى العقل، بعيدًا عن أشباح التهويل والإثارة.
(في عصر المعلومات، الجهل هو اختيار)
إلى اللقاء في رأي آخر...
Comments